..ســــــــــــــوء الظـــــــــــــــن..
عندما ندرس ظاهرة (سوء الظن) من الناحيتين السيكولوجية والسايسيولوجية - بمجمل تأثيراتها على الفرد والمجتمع - نكتشف أنها هي ذلك (المرض) الخطير وذلك (الفيروس) الذي يحطم جهاز المناعة لدى المجتمعات والأفراد ليحوّل رياضها النضرة وجنانها الغنّاء إلى صحارى قاحلة تحرقها أشعة الشمس اللافحة والى خرائب تنعق فيها الغربان.
وسوء الظن أيضاً هو ذلك (التيزاب) وتلك المادة الكيماوية الرهيبة التي تصب على (إيمان المؤمن) فتذيبه في لحظات وتحرقه في ثوانٍ بل كأسرع من لمح البصر ولذلك - وعلى عكس ما يتصوره أكثر الناس - كان (سوء الظن) محرّماً، يقول الإمام علي (ع): «اطرحوا سوء الظن من بينكم، فإنّ الله عزّ وجل نهى عن ذلك»، يقول الشهيد الثاني (قدّس سره): «واعلم أنه كما يحرم على الإنسان سوء القول في المؤمن، وإن يحدث غيره بلسانه بمساوئ الغير، كذلك يحرم عليه سوء الظن وأن يحدث نفسه بذلك. والمراد من سوء الظن المحرم، عقد القلب، وحكمه عليه بالسوء من غير يقين به وأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه، كما أن الشك أيضاً معفو عنه، قال تعالى (اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن إثم) فليس لك أن تعتقد في غيرك سوء إلا إذا انكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل».
ولكي لا نفتح لأنفسنا باب سوء الظن على مصراعيه متعللين بهذا المقطع من كلام الشهيد إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، أضاف الشهيد ههنا قائلاً: «ومن هنا جاء في الشرع إن مَن علمت في فيه رائحة الخمر، لا يجوز أن يحكم عليه بشربها، ولا تحده عليه لإمكان أن يكون تمضمض به ومجّه، أو حُمل عليه قهراً، وذلك أمر ممكن، فلا يجوز إساءة الظن بالمسلم، وذلك رغم أن هذين الاحتمالين ضعيفان جداً في أكثر الأحيان ومع ذلك لا يجوز الحمل عليها».
وقال المولى النراقي في جامع السعادات تحت عنوان (سوء الظن بالخالق والمخلوق): «فلا يجوز تصديق - الشيطان - اللعين في نبأه وإن حفّ بقرائن الفساد ما احتمل التأويل والخلاف..ولو أخبرك عدل واحد بسوء من مسلم، وجب عليك أن تتوثق أخباره من غير تصديق ولا تكذيب»، وعلله بتزاحم (سوء الظن) وأضاف «مع احتمال كون العدل المخبر ساهياً أو التباس الأمر عليه بحيث لا يكون في إخباره خلاف الواقع آثماً وفاسقاً».
قال رسول الله (ص): «إن الله حرّم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء فلا يستباح ظن السوء إلا بما استباح به الدم والمال وهو تيقّن مشاهدة أو بينة عادلة» وعن أبي عبد الله (ع): «إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء». وعن أمـــير المؤمنين (ع): «آفـــــة الدين سوء الظن» و«إياك أن تسيء الظن فإن سوء الظن يفسد العبادة ويعظم الوزر».
ويقول الإمام الشيرازي (دام ظله): «أما ظن السوء بهم (بالمؤمنين) فهو محرّم إذا كان كثيراً… لا يقال كيف يمكن حرمة سوء الظن مع انه غالباً ليس بيد الإنسان؟ فإنه يقال: إنها مثل سائر المحرمات الخبيثة التي بيد الإنسان التقليل منها وعدم الاستمرار فيها إذا طرأت عليه» - موسوعة الفقه، المجلد 93، كتاب المحرمات -.
والذي يبدو أن سوء الظن بالمؤمنين محرّم في حالتين أولاهما: ما إذا كان متعلقة من المحرمات (كما لو ظن بأخيه شرباً للخمر أو سرقة أو تعمّد غيبة وتهمة..) والثانية: ما إذا كان كثيراً وإنْ لم يتعلق بالمحرمات (كما لو ظن بأخيه: كثرة النوم أو الكسل أو ما أشبه ذلك) بحيث كانت حالات سوء الظن هذه عنده كثيرة وإليه يشير تصريح السيد الشيرازي السابق الذكر وكما أن المحرم عقد القلب عليه كما مر في تصريح الشهيد (قده) كذلك يحرّم حديث النفس به وتردده في الخاطر إذا كان كثيراً وإنْ لم يعقد قلبه عليه كما يستظهر من تصريح السيد الشيرازي دام ظله بـ(إذا كان كثيراً) وبـ(لا يقال كيف).
في البدء لا بدّ أن نعرف أن من أصيب منا (بداء) سوء الظن (لا يدرك) - في كثير من الأحيان - أنه مريض و(إن أدرك) فإنه سيختلق لنفسه الأعذار والمبرّرات وسيصر على موقفه تماماً كالمصاب بمرض (انفصام الشخصية) أو(التشاؤم والنظرة القاتمة للكون والحقائق والبشرية والأصدقاء والأحداث) أو (الوسوسة في الطهارة والنجاسة).
إن (الوسواس) يرى حالته هي الطبيعية بل هي الضرورية وغيره على خطأ! و(المتشائم) يحسب غيره بسيطاً سطحياً لا يلبث أن يرتطم بصخور الحقيقة المرّة! و(سيء الظن) بالعاملين والأصدقاء والعلماء وشركائه في العمل يحسب أنه (الذكي الألمعي) وأنه (الكيس الفطن) وان غيره المغفل والساذج والبسيط والمغرر به؟
فعندما يشهد عالماً يقارع الطاغوت يقول لا ريب أن له مآرب دنيوية ولا شك أن دافعه (حب الرئاسة)!! ولا نقاش في أن هنالك أيدي خفية تحرّكه!! وعندما يشهد خطيباً ناجحاً أو أستاذاً مرموقاً يسعى لبث أحاديثه عبر الأقمار الصناعية يحدّث نفسه: لابدّ أن حافزه حب الشهرة!! وعندما يرى أخاه المؤمن يؤسس مؤسسة دينية أو إنسانية لا ريب في انه يصنع بذلك (شبكة) يصطاد بها أموال الناس والكادحين!!
إن (سيء الظن) يرصد كل تحرك وكل همسة وكل نظرة ويحسب لها ألف حساب ثم تراه لا يحملها إلا على أسوأ المحامل. فيا ترى ما هو السبب الذي دعا (زيداً) لكي يؤسس مدرسة بالقرب من مدرستي! أو مسجداً أو مكتبة أو متجراً أو غير ذلك؟ إنّ هدفه واضح وضوح الشمس؛ لقد أراد أن ينافسني ويحطم مدرستي! ولماذا ـ يا ترى ـ لم يقم (عمرو) لي، عندما دخلت المجلس؟ إن من الواضح أنه رآني وتعمّد أن لا يقوم لي استخفافاً بي وهدراً لكرامتي أمام الناس! و أرأيت كيف نظر (بكر) إليّ؟ وكيف تغامز مع (خالد)؟ ثم كيف عاملني صديقهما (احمد) ببرود؟.
وزوجتي الأخرى ما الذي دهاها؟ أراها (تتثاقل) أحياناً في تلبية طلباتي ولا تتلقاني بابتسامتها المشرقة كالسابق وتشكو وتتذمر، لا بدّ أن هنالك سرّاً خطيراً وراء الأمر، لا وألف كلا ليس المرض هو السبب ولا مشاكل الحياة ومشاق تربية الأولاد ولا (الضغط العصبي) الكبير ولا طريقة تعاملي معها وجفائي وتكبّري واستعلائي وتعاملي معها كـ(خادمة) أو (أمَة) طوال السنين الماضية، كلا ثم كلا، لقد (طغت) و(تكبّرت) و(تجبرت)، ولابدّ أن تعاملني غير الفض معها شجعها على احتقاري والاستهانة بي، أو لا ريب أن (أمها) قد شحنتها ضدي.. وألف خيال وخيال، وهكذا (تتواصل) حلقات سوء الظن وتتوالى وتتتابع ليجد المرء نفسه أسير شبكة عنكبوتية سوداء قاتمة تعتصر فؤاده وتفسد عليه أخلاقه وتبعد عنه أحبائه وخلانه وإخوانه، ثم ليتحول إلى (إذاعة متحركة) تسب وتتهم، والى قنابل متفجرة تنسف وتحطم، وهكذا يكون (سوء الظن) هو البداية و(سوء العاقبة) هي النهاية.